إذن، فليس كل ما لا يُرى لا يعني أنه غير موجود؛ فمن خلال الأثر نستدل على المطلوب. وكذلك حاسة السمع، فالأذن تسمع ما بين عشرين وعشرين ألف هرتز.
وقدرة العقل البشري على سبر أغوار البيئة المحيطة محدودة لأنها محدودة بقدرة الحواس، فمهما وصل التقدم العلمي إلى درجات عالية تصبح قدرته على السيطرة على الكوكب محل شك.
ينقل ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة عصر لويس الرابع عشر عن بيير بايل ـ وهو أحد فلاسفة الثورة الفرنسيةـ عارضًا أفكاره فيقول: "إن العقل البشري لا يستطيع أن يصل بمفرده إلى الحقيقة المطلقة، ولا بد له من قبس من نور السماء حتى يصل إليها، وبدون هذا القبس، وبدون هذا النور يهبط العقل ويدخل في متاهة ظلامية لا مخرج منها."
وفي 2600 صفحة من الاستنتاج والحجج والبراهين اعترف ديورانت بضعف العقل فإنه - مثل الحواس التي يعتمد عليها- قد يخدعنا لأنه غالبا ما يتغشاه الانفعال. والرغبة والهوى – لا العقل- في كثير من الأحيان هما اللذان يحددان سلوكنا، فالعقل يعلمنا أن نشك ولكنه قليلًا ما يحركنا للعمل. (إن أسباب الشك مشكوك فيها هي الأخرى)، ومن ثم يجب على الانسان أن يشك إذا كان ينبغي له أن يشك... أية فوضى وأي عذاب للذهن! إن عقلنا يودي بنا إلى الحيرة ..والهيم على وجوهنا على غير هدى لأنه حين يكشف عن أكبر قدر من حدة الذهن والدقة يلقي بنا في الهاوية.
فهل العقل البشري أداة هدم أم أداة بناء؟ والمقصود بعملية الهدم هنا ، هو عملية الشك ذاتها ، فهو أداة للشك فقط لا لليقين، ولذلك فهو لا ينتهي من عملية شك ما إلا ليبدأ في شك آخر، وهكذا يجول وينتقل هنا وهناك ليديم الصراع. وبناءًا على ذلك, أشار بايل على الفلاسفة ألا يقيموا وزنًا كبيرًا للفلسفةـ ونصح المصلحين بألا يتوقعوا كثيرًا من الإصلاح، وحيث أن الطبيعة الإنسانية هي هي على مر القرون، فإنها بفعل الجشع، وحب المشاكسة، والشهوة الجنسية ستظل تثير من المشاكل ما يفسد المجتمعات، ويؤدي إلى فناء أية مدينة فاضلة - يوتوبيا- في مهدها.
إن الناس لا يتعلمون من التاريخ، وكل جيل يتمخض عن نفس الأهواء والأوهام الخادعة والجرائم، ومن ثم فإن الديمقراطية قد تبدو خطأ في التقدير قدر ما هي حقيقية (كما هو الحال في فرنسا الآن)، فالسماح للدهاة والمشعوذين والمضللين والمتهورين باختيار الحكام ورسم السياسة أدي في النهاية إلى انهيار فكرة الديمقراطية و العلمانية حتى وإن حاولوا أن يتمسحوا بهما. نحن الآن في مرحلة ما بعد الديمقراطية و العلمانية.